لم يعد التقدم الاقتصادي والاجتماعي عائداً للتطور التلقائي للظروف والاعتبارات المؤثرة في تقدم المجتمعات والمتغيرة خلال فترات زمنية متلاحقة ، مما يستوجب استدراك تلك التغيرات ، من خلال استقراء موضوعي للأوضاع الراهنة محلياً وإقليمياُ وعالمياً ، والتعرف على الاستحقاقات المجتمعية المختلفة.
وتسعى كافة المجتمعات إلى وضع رؤية استشرافية مستقبلية تؤسس على إدراك واعٍ للغايات المرجوة ؛ والخبرات السابقة ؛ والتجارب الواعدة ؛ والإمكانات القابلة لأن تتحقق والعوائق والمختنقات التي تحول دون تحققها.
فالرؤية حدس تاريخي يتكئ على أسس علمية ، وتطلع للمستقبل يتوسل التقصي الموضوعي للسنن المجتمعية الفاعلة في الماضي والحاضر والمستقبل ، وهي فعل استباقي ينكر الإمتثال ل مقتضيات الوقت الراهن ، ويبذل ما في وسعه للتصالح مع ما يحمله قادم الأيام والسنين والمراحل الزمنية القادمة والمتلاحقة.
ويبرز أهم أهداف الرؤية المستقبلية والمتمثلة في رسم خارطة طريق لوطن يكفل حق أبنائه في عيش كريم ، مؤسسة على إدراك الغايات المرجوة بوعي كامل ودراية كافية بالإمكانات القابلة لتحقيق هذا الهدف الوطني ، وغيره من أهداف.
وإدراكاً بأهمية وضع رؤية مستقبلية لليبيا … فقد بدأت المحاولات عندما تعاقد مجلس التخطيط الوطني مع مجموعة مونيتور ا لاستشارية العالمية (Monitor Group) والتي يرأسها الاستشاري الاقتصادي البروفيسور مايكل بورتر (Michael Porter) في العام (2006م) لإعداد الاستراتيجية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة كخطوة في طريق تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي في ليبيا ، حيث تم وضع الخطوط العريضة لرؤية ليبيا (2019م) ضمن منهجية هذه الدراسة التي تناولت تقييم التنافسية الاقتصادية في ليبيا ، وتضمنت جوانب الحوكمة المتمثلة في ادخال تعديلات بنيوية ووظيفية على النظام الاداري في ليبيا ، واعتبرت هذه الدراسة محاولة غير مكتملة لوضع رؤية مستقبلية لليبيا لعدم تناولها كثير من الجوانب الأساسية (البنية السياسية والإطار القانوني اللذين تعمل في اطارهما الإدارة في ليبيا – كذلك الجوانب المتعلقة بالعملية الدستورية ، وحقوق الإنسان ودور المجتمع المدني ، والمساءلة والشفافية ومحاربة الفساد )، بينما ركزت الدراسة على تحرير الاقتصاد من التشوهات الهيكلية وتطوير بيئة الأعمال ، وجذب الاستثمارات الخارجية وتشجيع الأنشطة التجارية الخاصة وريادة الأعمال ، وتناولت مقترحات ببعض الاصلاحات الاجتماعية خاصة في النظام التعليمي والصحة والخدمات العامة.
وفي هذا الاطار تم في العام (2007م) تكليف مركز البحوث والاستشارات بجامعة بنغازي (قاريونس) من قبل مجلس التخطيط الوطني بوضع دراسة شاملة تتضمن الملامح الأولية استشرافاً لرؤية ليبيا (2025م) ، حيث اسهم في إعدادها عدد لا يقل عن 80 خبيراً وطنياً من مختلف التخصصات ، وعقدت بشأنها عدد من ورش العمل والنقاشات العامة والمشاورات مع عدد من الأكاديميين وصناع القرار ، وبالإطلاع على تجارب عدد من الدول قامت بإعداد رؤى وطنية مستقبلية منها:- (ماليزيا-الهند-مصر-الامارات العربية-الاردن-عُمان) ، وتم عرض نتائج الدراسة بإجتماع المجلس المنعقد في نهاية العام (2007م) ، وتم إصدارها في عدة وثائق (تقرير الرؤية الاستشرافية الشاملة – التقارير القطاعية) حيث تناولت الدراسة المجالات التالية : الثقافة والعلوم ، الاقتصاد ، التنمية البشرية ، الصحة والبيئة ، الأمن الوطني.
ولأن ما يجعل الرؤية (رؤية إستشرافية) هو : أنها تتقصى الواقع وتستشرف الآتي من منظور منتظم كلي النزعة ، لم ترصد الأوضاع الراهنة واستشراف مستقبلها بشكل قطاعي ، بل عبر مفاهيم ومنطلقات وتبصرات ينهض عليها منظور واضح ومحدد الملامح ، يأخذ في حسبانه حقيقة أن مطاف إجراء تطويرات حاسمة في أي قطاع أن ينتهي بالتأثير في سائر القطاعات.*
وقد خلصت رؤية ليبيا 2025 إلى طرح 3 سيناريوهات :-
السيناريو الأول : هو سيناريو اسرف في التشاؤم ، حيث افترض استمرار الأوضاع الراهنة مع إدخال بعض التعديلات غير الجوهرية على النظام الاقتصادي ، إضافة إلى استمرار هيمنة الأيديولوجيا وسيطرة الدولة على مؤسسات المجتمع المدني ، وهيمنة القطاع النفطي . وتداعيات ذلك كما حددتها الرؤية تكمن في استمرار ثقافة الاستهلاك ، غياب الدستور وضعف سيادة القانون ، وهشاشة المؤسسات واستمرار الفساد المالي والإداري ، استمرار الاقتصاد الريعي والتشريعات المتعارضة التي تؤثر بشكل مباشر في فعاليات القطاع الخاص ، وغياب الشفافية والمحاسبة وتدني مستوى الصحة والتعليم ، الزيادة في معدلات البطالة.
السيناريو الثاني : وهو سيناريو أمعن في التفاؤول حيث أكد على ثقافة النهوض والتنمية المستدامة ، ولقد ارتكز على افتراض مجموعة من الديناميات الايجابية تسهم في تحقيق الأمن الإنساني ، وذلك من خلال وجود إدارة سياسية داعمة للتغيير ، تتبنى مفهوم الأمن الإنساني ، ومأسسة العمليات الديمقراطية ، مع ابراز الدور الجديد للدولة وللقطاع الخاص ، وتداعيات هذا السيناريو ، تحددت في بعض الجوانب منها صدور دستور يحدد اختصاصات مؤسسة الدولة ، وجود قضاء مستقل ونزيه ، وبيئة اقتصادية وسياسة تشريعية جاذبة للاستثمار الخارجي ، مع اتساع مساحة التعبير وحرية الصحافة والشفافية والمحاسبة.
السيناريو الثالث : وهو سيناريو الاحتواء حيث شكل مساراً وسطاً بين السيناريو الأول والسيناريو الثاني ، وارتكز على بعض الديناميات منها ؛ ارتهان السياسات والأفعال بالضغوطات الداخلية والخارجية ، والتركيز على إجراء إصلاحات اقتصادية أكثر من التركيز على إجراء إصلاحات سياسية واستمرار هيمنة قطاع النفط.
* رؤية ليبيا 2025 – مجلس التخطيط الوطني
رؤية ليبيا 2040م
قـــــام مجلس التخطيط الوطني بتحديث رؤية ليبيا 2025 ، حيث تم تكليف لجنة لمراجعتها وفقاً للظروف والتطورات التي حدثت بعد قيام ثورة فبراير في العام 2011م ، ولقد استعانت اللجنة بخبرات وطنية لإجراء التعديلات اللازمة ، حيث تم دمج التقارير القطاعية في رؤية شكلت رؤية استشرافية لليبيا 2040م ، ولقد انطلقت الرؤية المحدثة من عدة مداخل تشكل مسارات رئيسية وهي : الأمن الانساني ، والثقافة ، والعولمة ، والاوضاع الراهنة وهي نفس مسارات ومفاهيم رؤية 2025 المتمثلة في الأمن ، والمجتمع المدني ، والأداء الاقتصادي ، والتنمية البشرية ، والأداء الصحي ، والأداء البيئي ، كما ارتكزت الفكرة الأساسية للرؤية على مفهوم التنافسية ودور الدولة ، وتضمنت تحليل للمشهد الليبي بعد عام 2011م ، من خلال التركيز على المفهوم الغالب للأمن ، الذي أكدت الرؤية على أنه أمن تقليدي ولا يستوعب معاني الأمن الإنساني ، أمن يرتكز على أجهزة أمنية متعددة ومتضاربة ومتصارعة.
كما ركزت الرؤية على إبراز أهم التحديات والتي من بينها تحديات أمنية وسياسية ، منها التحديات المتعلقة بمأسسة العملية الديمقراطية وتطوير الآليات السياسية وظهور الجماعات المتطرفة.
وقدمت رؤية ليبيا 2040م عدة سيناريوهات :
وقـــد تم إحالة هذه الدراسة إلى رئاسة المؤتمر الوطني العام في العام 2012م ، وعقدت بشأنها جلسات عمل خلصت إلى عقد حلقة نقاش في الفترة ما بين 07-08/12/2013م بعنوان (رؤية ليبيا 2040 ثقافة نهوض وتنمية مستدامة) ، حيث استعرضت المحاور التي تأسست عليها الدراسة وما خلصت إليه من سيناريوهات ، وشارك في حلقة النقاش عدد من الخبراء والمختصين من قواعد المجلس المختلفة.
والملخص المرفق يعطي عرض موجز لأهم ما تناولته رؤية ليبيا 2040م.
ملخص رؤية ليبيا 2040
قراءة في المسرح العولمي
قراءة المشهد الليبي وموضعته في سياق المسرح العولمي
دور جديد للدولة
مفهوم الأمن الإنساني
رؤية 2040م
مجتمع مؤسس معرفيا، يعتز بهويته الوطنية الإسلامية بمختلف مكوناتها، ويحقق فيه كل فرد نفسه، بينما يسهم في رفاه الكل؛ مجتمع يفي استحقاقات البيئة العولمية ويشارك بدوره في الحضارة البشرية المعاصرة، ويعي أهدافه ويسعى إلى تحقيقها في ضوء استقراء موضوعي لإمكاناته وخياراته، ويدير مؤسساته بكفاءة وشفافية في ظل نظام ديمقراطي، ويتمتع أبناؤه بحقوقهم ويتساوون أمام القانون وينعمون بعيش يتناسب وجهدهم وموارد وطنهم.
وتتعين ملامح هذا المجتمع في التالي:
سيناريوهات
1 سيناريو الدولة الفاشلة
الديناميات
التداعيات
وفي النهاية، فإن المجتمع الذي تحركه هذه الديناميات، بما تفضي إليه من تداعيات، مجتمع محبط، يائس، مفكك، مغترب، مضطرب، تحكمه دولة ضعيفة، تابعة، ومخترقة، ومهددة.
2 سيناريو الدولة الناجحة
الديناميات
التداعيات
وسوف يسهم كل ذلك في خلق مجتمع قوي، ومنتج، وعادل، متسامح وآمن، تحكمه دولة مستقلة حرة، ذات سيادة تحظى باحترام المجتمع الدولي، ويتمتع نظامها السياسي بالشرعية والمشروعية والعدل والرشد والمصداقية.
3 سيناريو الدولة المتعثرة
وبحسبان أن فرص كل من سيناريو الدولة الناجحة وسيناريو الدولة الفاشلة ليست وافرة وفق المعطيات الراهنة، فالأول يسرف في التشاؤم، والثاني يمعن في التفاؤل، ثمة سيناريو ثالث يتنزل منزلة وسطا بينهما، ويتسم بطابع جدلي يتوقع أن ينتج حراكا سياسيا ومجتمعيا يتضمن صراعا بين التحديات والفرص. وسوف ترتهن مآلات هذا الصراع بغوامض يصعب الجزم بطبيعتها، ومن ثم فإن هناك صعوبة في تقدير فرص اتجاه المسار الذي يعرضه هذا السيناريو صوب مسار الدولة الفاشلة ومسار الدولة الناجحة.
وبوجه عام، من المتوقع أن تنجح مشاعر الحماس التي صاحبت انطلاق الثورة والضغوطات التي تمارسها الشرائح المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني في دفع الدولة بجناحيها التشريعي والتنفيذي إلى إعادة الاستقرار النسبي للبلاد عبر تشكيل نواة للجيش الوطني واستصدار دستور يحظى بموافقة أغلبية الليبيين. ولعل المواقف التي اتخذتها شرائح واسعة في اتجاه تعزيز الدولة المدنية وسيادة القانون، عبر رفضها استخدام السلاح في فرض الرأي، وانتخابها أعضاء المؤتمر الوطني العام، تشي بأن الشعب الليبي لن يتخلى عن الخيار الديمقراطي. غير أن أثر المنظومة القيمية الراهنة، بكل ما تؤسس له من سلوكات سلبية، وحقيقة أن تركة الخراب التي أورثها النظام السابق، بكل تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، أثقل من أن تزاح خلال عقود الرؤية، قد يسهمان في عرقلة إحداث النقلة المرجوة في المجتمع، وتنفيذ مشاريع تنموية حقيقية، وإذا ما حدث هذا، فإن المسار المتوقع هو سيناريو التخبط العشوائي.
الديناميات
التداعيات
ويُحدث المجتمع الذي تحركه هذه الديناميات درجة من التحسن في مستوى الخدمات والمعيشة، بما يفضي إليه ذلك من تداعيات إيجابية، ولكن تظل تحكمه دولة ضعيفة عاجزة عن إنجاز تحولات جذرية وتنفيذ مشاريع تنموية حقيقية، أساسا بسبب بقاء المنظومة القيمية على حالها، الراجع إلى الإخفاق في تطبيق برامج تنشئة تربوية واجتماعية وسياسية قادرة على تقويض ثقافة الاستباح والفوضى والثقافة الاستهلاكية والريعية التي تراكمت عبر عقود بما يحول دون تحويل الموارد إلى إمكانات حقيقية.